تهديد الصحفي “علي أبو نعمة” على خلفية لقاء على «زووم»: «الديموقراطية الألمانية» أوهن من بيت العنكبوت!

تانيد ميديا : «أنا لا أتلقى الأوامر من نظام يشارك في إبادة جماعية» هكذا ردّ أحد مؤسسي موقع «الانتفاضة الإلكترونية» على السلطات الألمانية التي هدّدته بالسجن بسبب إلقائه خطاباً عن فلسطين على تطبيق «زووم». منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تتوالى «مآثر» ألمانيا والغرب في قمع واضطهاد وترهيب الأصوات المناصرة لفلسطين

منذ اندلاع عملية «طوفان الأقصى»، كُشف زيف الدول الغربية ومنظومتها الأمنية والإعلامية في خدمة مصالحها الاستعمارية. لذا، ما عاد يفاجئ أحداً التزوير والبروباغندا والتلفيق التي شنّتها الوسائل الإعلامية الغربية لتبرير وحماية الكيان الاستعماري في فلسطين المحتلة. وآخر «المآثر» في مسلسل اضطهاد الترهيب الأصوات المناصرة لفلسطين في الغرب تلقّي الصحافي الفلسطيني علي أبو نعمة، مؤسّس موقع «الانتفاضة الإلكترونية»، تهديداً بالسجن من السلطات الألمانية بسبب إلقائه خطاباً عبر تطبيق «زووم» أمام جمهور في ألمانيا! ركز الخطاب، الذي كان جزءاً من مؤتمر «فلسطين في المنفى» الذي عُقد عبر الإنترنت يومَي 25 و26 تموز (يوليو) الماضي، على دور ألمانيا في ما وصفه أبو نعمة بـ «المحرقة الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة».قبل ساعتين تقريباً من موعد حديثه في 26 تموز، تلقّى أبو نعمة إخطاراً مكوناً من 15 صفحة عبر محامٍ ألماني. منعه الإخطار الذي أصدرته السلطات الحكومية في برلين من المشاركة في المؤتمر بأي وسيلة، بما في ذلك عبر الإنترنت. وشملت عقوبات المخالفة غرامات مالية والسجن لمدة تصل إلى سنة واحدة.
ورغم التهديد، واصل أبو نعمة كلامه، وتحدث إلى آلاف المشاهدين عبر الإنترنت من الولايات المتحدة. وقد برّر قراره قائلاً «أنا لا أتلقّى الأوامر من نظام يشارك في إبادة جماعية»، واستشهد بمقولة مارتن لوثر كينغ الابن «رسالة من سجن برمنغهام»، التي تؤكد على المسؤولية الأخلاقية لعصيان القوانين الجائرة.
ويعي الصحافي بأنه رغم أنّ التحدث من الولايات المتحدة يضعه خارج نطاق الولاية القضائية الألمانية، إلا أنه يدرك أن السلطات الألمانية قد تفتح قضية جنائية ضده. وأعرب أبو نعمة عن تضامنه مع المنظمين من أجل حقوق الفلسطينيين في ألمانيا، ولا سيما أعضاء الجالية الفلسطينية وحلفائهم اليهود المعادين للصهيونية، الذين تعرّضوا لقمع كبير، بما في ذلك الحظر وعنف الشرطة ومداهمة المنازل والاعتقالات.
وانتقد منظمو المؤتمر قرار الحظر، مشيرين إلى أنه «صدى لإجراءات قمعية سابقة»، ويكشف «مرة أخرى الوجه القمعي للديموقراطية الألمانية». وعلقوا كذلك بأن الإجراء ضد أبو نعمة «يثير تساؤلات حرجة حول ما إذا كانت ألمانيا قد استوعبت دروس الماضي بالكامل أم أنها تكرر نفس الأخطاء تحت ستار مختلف».
تناول أبو نعمة في حديثه الذي استغرق 20 دقيقة دور ألمانيا في الوضع القائم في غزة وتواطؤها التاريخي مع الصهيونية التي وصفها بأنها «أيديولوجية عنصرية وفاشية واستعمارية». واتهم المستشار الألماني أولاف شولتز ووزيرة الخارجية أنالينا بيربوك بنشر الدعاية الإسرائيلية الفظيعة الملفّقة التي تبرر الإبادة الجماعية وتحرّض عليها، داعياً إلى تقديم كلا الزعيمين إلى العدالة.
حاول أبو نعمة أن يشرح لماذا تقوم ألمانيا، التي تقدم نفسها بمثابة دولة ديموقراطية حديثة، بتسليح ودعم أفعال إسرائيل في غزة. وتتبع التحالف الألماني مع الصهيونية إلى جذور ما قبل الحرب العالمية الثانية في الأفكار البروتستانتية المعادية للسامية في القرن التاسع عشر، التي استمرت عبر المحرقة النازية إلى يومنا هذا.
وطعن الصحافي في صورة ألمانيا الديموقراطية الحديثة، مشيراً إلى أنّ عدداً من مؤسسات ألمانيا الغربية (عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية) أسّسها أعضاء سابقون في نظام هتلر. واستشهد بأمثلة مثل مستشار ألمانيا الغربية في الستينيات، كورت كيزنغر، الذي كان عضواً في الحزب النازي و«ضابطاً كبيراً في الدعاية النازية» أثناء الحرب. وذكر أبو نعمة أيضاً رئيس الجواسيس النازي السابق الذي أسّس «جهاز الاستخبارات الألمانية الحديثة» (BND)، راينهارد غيلين، وأشار إلى أنه في السبعينيات، كانت المراتب العليا في وزارة العدل في ألمانيا الغربية تضم عدداً من أعضاء الحزب النازي السابقين.
وفي مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» في 24 آذار (مارس) من العام الحالي، تحت عنوان «كيف خسرت ألمانيا الشرق الأوسط؟»، يسرد كيف أدى دعم ألمانيا الثابت لإسرائيل في أعقاب عملية «طوفان الأقصى» إلى الإضرار بسمعتها وقوتها الناعمة في الشرق الأوسط بشكل كبير. بعدما كان يُنظر إلى «موقف ألمانيا من الحرب بين إسرائيل و«حماس» بشكل إيجابي في العالم العربي»، أدى موقف ألمانيا من حرب إسرائيل على غزة إلى تحول دراماتيكي في الرأي العام، إذ أعرب 75 في المئة من المشاركين في استطلاع للرأي أجري حينها عن آراء سلبية تجاه موقف ألمانيا. لعقود من الزمن، وازنت ألمانيا بين مسؤوليتها التاريخية تجاه «إسرائيل» وعلاقاتها الودية في العالم العربي، ما أدى إلى تطوير بصمة قوة ناعمة كبيرة. إلا أن هذا التوازن تعثر منذ 7 أكتوبر، فقد دعمت ألمانيا الهجوم الإسرائيلي على غزة إلى حد كبير، وأصبحت ثاني أكبر مورّد للأسلحة في الحرب.
وكانت التداعيات كبيرة. فقد واجهت المؤسسات والمنظمات الثقافية الألمانية في الشرق الأوسط رد فعل عنيفاً، إذ ألغيت الفعاليات وتوترت الشراكات. ويتحدث المثال عن إبلاغ العاملين في المنظمات الألمانية عن صراعات داخلية ومخاوف من تأثير ذلك على عملهم. وقد أوقفت ألمانيا تمويل بعض المنظمات الفلسطينية وتدقّق في شركائها بسبب ما تراه «معاداة للسامية» أو دعماً لحركة المقاطعة، فسحبت الاستثمارات وفرضت العقوبات. وقد بدأ بعض الشركاء العرب بمقاطعة المؤسسات الألمانية ورفض التمويل. وقد يكون لهذا التآكل في الثقة، الذي بُني على مدى عقود، آثار طويلة الأمد على نفوذ ألمانيا في المنطقة.
يُبرز خطاب أبو نعمة والتهديدات اللاحقة الطبيعة المعقّدة والمثيرة للجدل للمناقشات المحيطة بإسرائيل، ولا سيما في ألمانيا. وتثير هذه الحادثة أسئلة مهمة حول حدود حرية التعبير، ودور «الذنب التاريخي» الألماني في تشكيل السياسات الحالية. علماً أن ما حصل ليس حادثة معزولة. في نيسان (أبريل) الماضي، داهمت السلطات الألمانية بشكل عنيف مؤتمراً فلسطينياً في برلين وأغلقته، ومنعت عدداً من المتحدثين بمن فيهم السياسي اليوناني يانيس فاروفاكيس والدكتور غسان أبو ستة. وكان الشخص الوحيد الذي تمكّن من التحدث قبل الإغلاق هو الصحافية هبه جمال، التي شاركت أيضاً في المؤتمر الأخير عبر الإنترنت.
صحيح أنّ ألمانيا تبنت أخيراً لهجة أكثر انتقاداً تجاه إسرائيل، داعيةً إلى زيادة المساعدات الإنسانية ومحذرةً من اجتياح واسع النطاق لرفح، إلا أن الضرر الذي لحق بسمعتها قد يكون من الصعب إصلاحه، وخصوصاً أن مكانة ألمانيا الأخلاقية وصورتها كمجتمع ليبرالي مرحب بالآخرين قد تضرر بشكل كبير في نظر كثيرين في الشرق الأوسط. وقد يكون من الصعب إعادة الاعتبار إلى مكانتها الأخلاقية في عدد من القضايا وصورتها في المستقبل القريب.

نقلا عن جريدة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى